ظلال الأزرق: البيئة وأصداء الصحافة
تعد واحة الأزرق شاهدًا حيًّا على التحديات البيئية الكبيرة التي تواجه الأردن في ظل التغير المناخي المتسارع الذي يشهده العالم
في أثناء زيارتي لواحة الأزرق عام 2022م، وخلال تصويري لفيلمي الوثائقي القصير هناك، قابلت أحد المشاركين في الفيلم من سكان المنطقة الذين عاصروا التغيرات التي طرأت على الواحة، وشهدوا تحولاتها الكبرى التي أفضت إلى زوال حوالي 90% من معالمها التي كانت عليها في ثمانينيات القرن الماضي. ولدى سؤاله عن أكثر ما يفتقده في حياة الأزرق القديمة أو يحن إليه، أجابني بنبرة حنين: "أشتاق إلى السباحة في مياه الواحة"، ثم صمت قليلًا قبل أن يكمل: "وأندم لأني لم أُعلم أبنائي السباحة فيها!"، استغربت الإجابة؛ فرغم تفهمي لحنينه لما كانت عليه الأزرق، لم أستطع تفهم ذلك الندم لديه.
وقبل أن أنتهي من تصوير الفيلم، وبعد أن التقيت كثيرًا ممن عاصروا الحياة في الواحة قبل زوال معظم معالمها، لم يعد ندم ذلك الشخص مستغربًا لديّ؛ إذ أدركت أن السباحة بالنسبة لأهالي الأزرق كانت تشكل جزءًا رئيسًا من حياتهم اليومية، ومهارةً أساسية للبقاء، على عكس سكان المدينة الذين تمثل السباحة لديهم مجرد نشاط ترفيهيّ، فالواحة الممتدة على مساحة 20 كيلومترًا جعلت السباحة وسيلة تنقل رئيسة للسكان هناك، ووسيلة لكسب رزقهم الناتج عن صيد الأسماك، ففي الثمانينيات كان مَن يفتقد لمهارة السباحة في الأزرق لا يستطيع تأمين قوته، أو التنقل في المكان الذي تحيط به المياه من كل جانب. ذلك الشخص كان يشعر بالخذلان لأنه لم يُعلم أولاده ما يعتقد بأنه أساسي لهم للاستمرار في الحياة.
مثل هذه المشاعر والردود وما أفصح عنه سكان الواحة من مشاعر الفقد والحنين، جعلني للمرة الأولى أستوعب الأمور بعمق مختلف، وبدأت أدرك كيف أن التغيرات البيئية تُفقِد الإنسان والمجتمعات جزءًا أساسيًّا من الهوية، وتطمس مظاهر الحياة التي عايشها الأفراد وتفاعلوا معها بمشاعرهم، لتحل بدلًا منها تحديات جديدة قاسية قد لا يستطيعون أبدًا مواجهتها والتكيف معها. لقد غيرت هذه التجارب طريقتي في بحث مثل هذه المواضيع، وأحدثت تحولًا مهمًّا في كيفية تناولي للمواضيع البيئية وما يكتنفها من تفاصيل، وأثارت التساؤلات لديّ بشأن الدور الحقيقي الذي يجب أن تلعبه الصحافة في تغطية هذه القضايا، ولا سيما في ظل مواجهتها هي أيضًا لتحدياتها الخاصة.
تعد واحة الأزرق شاهدًا حيًّا على التحديات البيئية الكبيرة التي تواجه الأردن في ظل التغير المناخي المتسارع الذي يشهده العالم، وهي واحة تقع في قلب الصحراء الشرقية للأردن على بعد حوالي 110 كم شمال العاصمة عمّان. كانت الأزرق عبر التاريخ ممرًّا للقوافل التجارية المسافرة عبر الأردن، واستراحةً يتخفف المسافرون فيها من أعباء سفرهم، وقد استقبلت عبر تاريخها الممتد موجات متنوعة من اللاجئين الشيشان والدروز، ثم السوريين في الآونة الأخيرة. وتُعرف الأزرق بواحتها الصحراوية الرطبة، التي تعرضت منذ ثمانينيات القرن الماضي إلى جملة من التحديات البيئية الجسيمة التي غيرت من شكل المكان، وأثرت على السكان تأثيرات اقتصادية واجتماعية كبيرة.
ففي تلك الفترة استنزفت المدن الأردنية المستفيدة من حوض الأزرق حوالي ستين مليون متر مكعب من مياهه سنويًّا، وهو ما أفقد الواحة مواردها المائية وأفضى إلى جفافها، حتى خسرت بحلول عام 1992م نحو 99.6% من غطائها المائي والنباتي، ما أدى إلى تدمير نظامها البيئي القائم فيها منذ آلاف السنين، ولا سيما أن هذا الضخ الجائر للمياه كان مصحوبًا بارتفاع درجات الحرارة والجفاف وتذبذب الهطولات المطرية، ما فاقم أخيرًا من التحديات البيئية هناك وهدّد الواحة بالاندثار.
مختار الشيشان في الأزرق، محمد سمداح، وُلد هناك عام 1945م ولا يزال مقيمًا في المكان، وهو شاهد حيٌّ على التحولات التي شهدها عبر السنين. يقول سمداح: "الأزرق كانت جنة؛ برك مائية تمتد على مساحة 20 كم مربعًا، طبيعة خلابة، واحة في منتصف الصحراء، والناس كانت تعيش من خيرها، كانت حياتنا بسيطة وجميلة، الواحة والبرك كانوا مصدر حياتنا، السمك والجواميس والبقر موجودة وبنعيش عليها، ما كنا بنزرع لأنه الأرض مالحة، لكن كل شيء إحنا بحاجته كان موجود".
ويصف سمداح الطريقة التي تغيرت فيها الحياة في الأزرق بقوله: "في آخر الثمانينات المي اللي كانت تيجي من منطقة الدشة (منبع الماء) كانت تخف تدريجيًّا، وصار جفاف فيها، وبلشت قطعان الأغنام والبقر والجاموس يظهر عليها الضعف والتعب، لأنه لم يعد تتوفر لها مصادر المياه، وكانت الأسماك تقل تدريجيًّا حتى اختفت".
وتابع سمداح: "إحنا حياتنا تغيرت كمان، الحياة صارت أصعب، وكثير من الناس تركت المكان لأنه فقدت كل مصادر الحياة، صرنا عايشين بصحرا، حتى حصد الملح اللي كنا عايشين عليه وقف".
والأزرق منطقة منخفضة؛ لذلك تصب فيها كثير من الوديان المحملة بالمياه والأملاح، وبعد تسرُّب تلك المياه إلى باطن الأرض تبقى الطبقات الملحية على السطح، وهو الأمر الذي لطالما استفاد منه سكان المنطقة وشكّل لهم مصدرًا رئيسًا للدخل، إلا أن هذه الصناعة تدهورت مع ارتفاع تكلفة الإنتاج.
وقد أسهم تراكم هذه الطبقات الملحية على الأرض في زيادة ملوحة المياه التي تصل إلى حوض الأزرق المائي، وهو ما جعله أكثر ملوحة مما كان عليه في السابق.
المتغيرات البيئية زادت من صعوبة الحياة في الأزرق، ليس على سكانها المحليين فحسب، بل على اللاجئين السوريين الذين لجؤوا إلى المنطقة أيضًا بعد تصاعد حدة الحرب في سوريا، ومن بين هؤلاء "منير عبيد" الذي قدِم إلى المنطقة للعمل في القطاع الزراعي، فعانى هو وآخرون من الفيضانات التي شهدتها، ولا سيما فيضان عام 2021م الذي أغرق المحاصيل وبيوت الشعر.
يصف عبيد صعوبة الحياة هناك قائلًا: "أنا بس بعرف الزراعة، لكن الزراعة بالأزرق صارت صعبة، السنة الماضية إجا سيل غرق كل شيء، حتى بيوت الشعر إلي إحنا ساكنين فيها"
وعلى الرغم من نجاح الجمعية الملكية لحماية الطبيعة بعد عملية إعادة التأهيل التي أطلقتها عام 1992م في استعادة جزء من الواحة التي أنهكها الجفاف، فإن مدير المحمية حازم خريشة يقول إن المحمية تواجه مخاطر كبيرة، ولا سيما في السنوات العشر الأخيرة؛ نتيجة جفاف المياه وندرتها، وتذبذب الهطول المطري الذي كان يغذي الواحة، بالاضافة إلى الضخ الجائر من حوض الأزرق المائي وخاصة لأغراض الزراعة.
وتقع الواحة على أهم مسارات هجرة الطيور؛ ما يجعلها ممرًّا حيويًّا لأكثر من 350 نوعًا من الطيور، علاوة على أنها موطن لمجموعة من الأسماك النادرة، مثل سمك السرحاني، وتحتوي المحمية كذلك على 24 رأسًا من الجواميس المائية فقط، بعد أن كانت أعدادها بالمئات سابقًا.
وتواجه محمية الأزرق التي تشكّل ملاذًا لتلك المخلوقات خطرَ الاندثار ما لم تُحكَم حمايتها، وهو ما دفع بالجمعية الملكية لحماية الطبيعة نحو تسييج منطقة المحمية تمامًا، وتسيير دوريات يومية على كامل حدودها؛ من أجل الحفاظ على هذا الإرث الطبيعي الفريد، والإبقاء على ما استُعيد من المحمية، ومنع الاعتداءات عليها ولا سيما من صيادي الطيور.
ومع تصاعد وتيرة الجهود لحماية واحة الأزرق وزيادة التحديات البيئية، تبرز أهمية التغطية الإعلامية لهذه القضايا الحيوية. إن الصحافة في الأردن، التي تعمل جاهدة لرفع مستوى الوعي بشأن التغير المناخي، تجد نفسها أمام مهمة شاقة تتطلب معرفة دقيقة ومعمقة بالظروف البيئية المحيطة، وتتشابك هذه المهمة مع تحديات أخرى تعيق قدرة الصحفيين على تقديم المعلومات بكفاءة، ولا سيما فيما يتعلق بجمع البيانات، وفهم المصطلحات والظواهر البيئية، والتعاون مع المؤسسات العلمية.
صانعة الأفلام والصحفية بيان أبو طعيمة (26 عامًا) التي عملت في الآونة الأخيرة على إنتاج فيلم وثائقي عن جفاف المياه في جنوب الأردن وتأثيره على قطاع الزراعة، تقول إن ندرة المصادر والأبحاث المتخصصة بقضايا المناخ ولا سيما المتعلقة منها بمنطقة جغرافية محددة، تجعل من الصعب على الصحفيين فهم هذه القضايا جيّدًا أو معرفة كيفية البدء في تغطيتها.
وتتابع أبو طعيمة : "وللأسف الشديد الفئات الأكثر عرضة لتأثيرات التغير المناخي والبيئي ما زالت غير واعية لهذه القضية، فعلى سبيل المثال هم يدركون أن الحرارة في السنوات الأخيرة زادت وأن الموسم المطري يتذبذب، لكنهم لا يستطيعون ربط هذه الظواهر بالتغير المناخي".
كذلك فإن الجسور ما بين الجسمين الصحفي والعلمي في الأردن شبه مقطوعة؛ أنا على سبيل المثال لم يكن بإمكاني أن أفهم قصة الأزرق بهذا العمق لولا المساعدة من قِبل الباحثين في الجمعية العلمية الملكية، الذين كانوا يعملون على دراسة التأثيرات البيئية على الأزرق على مدار السنوات الثلاثين الماضية، وهي الفرصة التي قد لا تكون متاحة لكل من يريد أن ينتج قصة عن التغيرات المناخية والتحديات البيئية في الأردن.
ويظل شح المعلومات والبيانات الدقيقة عن البيئة والمناخ في الأردن من العقبات الرئيسة التي تواجه الصحافة، وعلاوة على ذلك، فإن معظم التقارير البيئية مكتوبة باللغة الإنجليزية وغير متاحة بشكل مجاني؛ ما يزيد من صعوبة الوصول إلى معلومات دقيقة عن التغير المناخي داخل الأردن.
في هذا السياق، يبرز دور الصحفيين بوصفهم حجر الزاوية في بناء جسر معرفي بين العلم والجمهور؛ إذ يمكن أن تؤدي قصصهم إلى تغييرات ملموسة في الوعي والسلوكيات. إن التحديات التي تواجه واحة الأزرق تمثّل دعوة ملحة لكل من يمكنه الإسهام في مواجهتها، وهنا تتجاوز مسؤولية الصحافة حدود التقارير والتحليلات لتصبح محفزًا للعمل البيئي، ومنارة للحقيقة في مواجهة التحديات المعقدة. إن الطريق نحو حماية البيئة ومكافحة التغير المناخي يحتاج إلى كل صوت يمكن أن يُسمع، وكل قلم يمكن أن يكتب.
أُعِدّ هذا المقال والصور المرفقة به بدعم من اليونسكو في الأردن، وإن الآراء ووجهات النظر المطروحة هنا تخص المؤلف والمصور ولا تمثل بالضرورة سياسات اليونسكو أو المواقف الرسمية لها.